عندما قررنا استكمال دراساتنا العليا، كنا نطمح أن يتم ابتعاثنا لمكان قريب جغرافياً لا يبعد أكثر من عشر ساعات بالطائرة، مكان لا نحمل تجاهه مشاعر سلبية. حاولنا مناقشة المسؤولين عن إمكانية الابتعاث إلى بريطانيا، نيوزيلندا، أو أستراليا بلا طائل، كان الرد دائما هو أمريكا فقط. في تلك السن وفي تلك الفترة، حملنا الأمور فوق طاقتها وتقاذفت بنا التفسيرات التي قد يراها من مرّ بنفس المرحلة، خاصة أن السياسة الأمريكية لا تعطي الشعوب العربية فرصة لتحبها أو على الأقل لتتقبلها أو تقبل منها شيئا. وتم السفر، ودعوني أخبركم بحقيقة التجربة الأمريكية.
لم نصب في بداية حياتنا الجديدة في أمريكا بما يسمى “صدمة الثقافة”، فقد تعودنا في بلدنا الحبيب على المزيج السكاني والفكري والثقافي والانفتاح الإعلامي. ما كان مختلفا عما ينقله إعلامهم أن طلابهم كانوا بمستوى الذكاء العادي وليس البطولي، بل على العكس كنت أرى كثيرا من العرب لديهم من الأفكار والمشروعات ما تنبهر به الجامعات الأمريكية. الفرق بيننا وبينهم أنهم يفكرون ثم ينفذون. وما يميزهم أنهم لا يضيعون بل يضعون، لا يضيعون الوقت في الحديث عن المشروع بل يضعون جدولا زمنيا محددا لإنجاز المهام، لذا يغزر الإنتاج الفكري والأدبي والعلمي لديهم ويكثر الكلام عندنا.
الدراسة العليا في أمريكا مختلفة عن الدراسة في بقية الدول الأجنبية، لأن الطالب يجبر على دراسة عدد من الساعات المعتمدة قبل كتابة الرسالة بعكس الدول الأخرى التي يكتب فيها طالب الدراسات العليا الدراسة مباشرة. يتخرج الطالب من أمريكا وعنده علم وافر عن رسالته وتخصصه وعلوم أخرى مهمة بعكس الخريج الآخر الذي لا علم له إلا بموضوع رسالته والمراجع التي عاد إليها.
تدفعك المعيشة في أروقة الجامعة في أمريكا نحو التفكير ومطالعة مستجدات العلم عامة وتخصصك خاصة، فمشرفك تجده مشغولاً في تأليف عدة كتب ومؤتمرات وأوراق، وزملاء الدراسة يتنافسون في قراءة الجديد من الدراسات وعمل مجموعات تعلم فيما بينهم لقراءة أمهات الكتب ومناقشتها.
المعيشة في أمريكا تجعلك تتعجب من صبر هؤلاء الأفراد على التعلم وتفضيل المكوث في المكتبة على الجلوس في المنزل مساء أو أثناء عطلة نهاية الأسبوع. لا مجال للمقارنة بين حب العلم وحب التطوير عندهم وبين طلابنا الذين ندفعهم دفعاً نحو التعليم.
في الفترة التي كان الأجانب فيها يقصدون “الحلم الأمريكي”، كنا نبحث عن بقالات ومساجد وأسر عربية تعيدنا أو تذكرنا. هناك حلم أجمل. الحياة بسيطة للغاية، كل ما عليك فعله رفع سماعة الهاتف أو الجلوس أمام الإنترنت لدفع جميع الفواتير وتغيير عنوانك وإنجاز جميع معاملاتك وحجز تذاكر سفرك، ببساطة لا تحتاج إلى الخروج من منزلك لإنجاز أي معاملة. تلك البساطة تسري على التعامل بين الأفراد فتراهم لا يتكلفون في ملبسهم أو هداياهم فكل ما تهديهم وإن بدا بسيطاً أفرحهم ويكفيهم أنك تذكرتهم بشيء ما. اللافت للنظر أنهم لا يتأخرون أبدا عن مواعيدهم أو مواعيد المحاضرات، فإذا كان المساق يبدأ في السابعة مساء مثلا، فذلك يعني أن المحاضر سيبدأ الحديث في ذلك التوقيت في صف كامل العدد والأهبة. الجميع يبتسم لك، يسلم عليك، يلاعب أطفالك ويفتح لك الباب وغيرها من سلوكيات الذوق والأدب. تستطيع في أمريكا أن تكون أنت دون الخوف من عواصف المحيطين. ورغم ذلك رأينا من صنوف الانحراف الفكري والخواء الديني والروحي والجريمة وسمعنا ما تقشعر منه الأبدان، ولكن يجب أن أذكر من باب التجربة أنهم يتعلمون فيعملون، أهدافهم واضحة، يضعون ولا يضيعون، لذا صارت أمريكا من الدول المتقدمة وصرنا نحن من الدول التي مازالت تتحدث وتعترض وتلعن الظلام.
د. كريمة مطر المزروعي
جامعة الامارات