شهد القرن العشرون انجازات علمية مذهلة. لعل أهمها ما يرتبط بنواة الذرة وقد أدي ذلك إلي وضع أسس لتقنيات حديثة أصبحت تميز حياتنا المعاصرة منها: الرنين المغناطيسي النووي الذي يعتبر تحقيقا لحلم الأطباء في ايجاد وسيلة مأمونة وفعالة لتصوير خفايا الجسم البشري. وأمراضه. ومن ثم علاجها بمزيد من الدقة إن القدرة علي استخلاص المعلومات من داخل جسم الإنسان. هي التي تجعل الطب في عداد المعارف العلمية. لكن فيما عدا سماعة الطبيب ومنظار العين لم تكن الوسائل الفنية للحصول علي هذه المعلومات متاحة. قبل اكتشاف الأشعة السينية "إكس" في نهاية القرن التاسع عشر. ثم تطورت ببطء تقنية توليد واستخلاص هذه الأشعة في التصوير. ولم تزدد سرعتها في التقدم إلا في الثلاثين سنة الأخيرة.
وشهدت فترة الخمسينيات من القرن العشرين ظهور الطب النووي والكشف بالموجات فوق الصوتية Ultrasound. كما عاصرت فترة السبعينيات من هذا القرن التوصل إلي التصوير بالأشعة باستخدام الكمبيوتر CT وجهاز التصوير الباعث للبوزيترون PET وفي الثمانينيات التصوير بالرنين المغناطيسي النووي "NMR) Nuclear Magnetic Resonanceإن الأمراض التي تهاجم جسم الإنسان كثيرة ومتعددة. لدرجة أن كل طريقة من طرق التصوير بالأشعة لها فائدتها الخاصة ومن ثم فإن الأمر يحتاج إلي وجود كل هذه الوسائل. وبحيث لا تلغي إحداها الأخري.
وفي جميع طرق التصوير الطبي يتحول شكل معين من الطاقة إلي نمط مرئي بطريقة محددة مكانيا. بحيث تنعكس الطاقة بواسطة مكونات عميقة داخل الجسم. وباستثناء التصوير الحراري. فإن مصدر الطاقة وخواص الإشارة المرتدة من الجسم. تحددهما معدات التصوير الطبي المستخدمة.
ومن الناحية المثالية يستخدم التصوير الطبي كسجل للحالة الوظيفية "الفسيولوجية" لأعضاء الجسم البشري. وقد يكون هذا السجل وقتيا أو دائما تبعا للطريقة المستخدمة والهدف المطلوب. وليس كافيا تسجيل شكل عضو الجسم فقط. وإنما يجب تصوير الوظيفة التي يقوم بها إذا كان الهدف الكشف عن بعض أنواع الأمراض التي تهاجم الجسم البشري. وهكذا أمكن في الوقت الحاضر تصوير تدفق الدماء والتمثيل الغذائي وتركيب النسيج الضام وغير ذلك.
مغناطيسات.. داخل الجسم
الرنين المغناطيسي النووي "وكلمة نووي هنالا ترتبط بالنشاط الاشعاعي بل بنواة الذرة" طريقة جديدة لإنتاج الصور باستغلال الخواص المغناطيسية لأنوية الذرات. ورغم أن الرنين المغناطيسي استخدم معمليا منذ الأربعينيات من القرن العشرين. إلا أنه لم يتم تطوير الأجهزة التي تستخدمه لكي تنظر إلي داخل الجسم البشري وتنتج صورا عن تركيبه الكيميائي. إلا منذ عام .1980 وقد تتساءل ما هو الأساس العلمي لفكرة الرنين المغناطيسي النووي؟
من المعروف أن الجسيمات دون الذرية التي تكون النواة هي البروتونات والنيوترونات – ما عدا نواة الهيدروجين التي بها بروتون واحد فقط – وتدور معظم أنوية الذرات حول محورها وكأنها مغازل صغيرة. وهذه الحركة المغزلية يطلق عليها البرم Spin والبروتونات تبرم عكس اتجاه برم البيوترونات ومن ثم يلغي أحدهما الآخر ومع ذلك فقد لا يكون عدد البروتونات والنيوترونات متساويا في النواة. وعندئذ يخلق البرم مجالا مغناطيسا دقيقا بالطريقة نفسها التي ينشيء بها دوران كوكب الأرض. المجال المغناطيسي الأرضي.
وفي هذه الحالة تتصرف نواة الذرة كما لو كانت قضيبا مغناطيسيا دقيقا ذا قطب شمالي وقطب جنوبي. والذرات التي من هذا النوع هي التي تستخدم في إنتاج الصور بالرنين المغناطيسي النووي. والمثال النموذجي علي هذا. ذرة الهيدروجين التي تحتوي علي جسيم دون ذري واحد في النواة هو البروتون. ويتوافر الهيدروجين بكثرة في جميع أنواع الأنسجة المكونة لأجزاء الجسم البشري. وفي الظروف العادية توجد ذرات الهيدروجين في الجسم بحيث تتجه مغناطيساتها عشوائيا. ويعني ذلك أنها تلغي بعضها بعضا. ومن ثم لا ينتج عنها أي تأثير مغناطيسي.
ولكن عند وضع الجسم البشري في مجال مغناطيسي خارجي قوي وثابت. فإن هذه الأنوية تتجاوب مع قوة المجال المغناطيسي الخارجي بأن تنظم نفسها باتجاه باحدي طريقتين. اعتمادا علي الطاقة المختزنة: إما في اتجاه مواز للمجال المغناطيسي Parallel في حالة الطاقة المنخفضة. أو في اتجاه مضاد له في حالة الطاقة المرتفعة أو كما يسمي "موازي مضاد" Anti – Parallel ولكن هناك دائما توازنا حيويا بين حالتي الطاقة المنخفضة والمرتفعة. يحددها المجال المغناطيسي ودرجة الحرارة.
وظائف أخري والرنين المغناطيسي النووي لا يستخدم فقط في إنتاج الصور. إذ باستخدام برامج كمبيوترية مختلفة. يمكن لجهاز الرنين المغناطيسي أخذ قياسات للعمليات الكيميائية التي تحدث في الأنسجة الحية للجسم البشري.
وذرة عنصر الفوسفور أيضا لها رقم فردي في الجسيمات دون الذرية داخل النواة "31". ولهذا يمكن فحصها بدلا من نواة الهيدروجين. والفوسفور هو أحد المكونات المهمة لأدينوسين ثلاثي الفوسفور ATP. وهي مادة كيميائية لها دور في عملية تجهيز الطاقة في العضلات والأنسجة الأخري في الجسم البشري للاستخدام. وقد أمكن بالفعل للقياسات الكيميائية الحيوية باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي النووي. اقتراح طرق لعلاج مشاكل العضلات.
ومن المتوقع أن يكون التصوير بالرنين المغناطيسي النووي قادراً. علي إظهار وفرة نوع معين من الأنوية في أنسجة الجسم البشري. حيث توضح صورة الكثافات المختلفة لذرات الهيدروجين وتأثيراتها المتبدلة مع الأنسجة المحيطة بها. ولأن الهيدروجين يحدد المحتوي المائي للجسم البشري. فإن الأطباء يمكنهم استخدام الصور في التمييز بين الأنسجة المختلفة.
كذلك تبين صور الرنين المغناطيسي النووي. بيئة الجزيئات المحتوية علي الأنسجة. وهذا الأسلوب المتخصص له امكانات هائلة. وقد تم بالفعل الحصول علي صور مثيرة ودقيقة لأنسجة المخ والأعصاب أفضل من الصور المأخوذة بطريقة التصوير بواسطة الكمبيوتر. بالاضافة إلي أن الرنين المغناطيسي له قيمة لا تقدر في اكتشاف عضلات القلب المريضة. والأمراض التي تؤثر علي مركبات الدهون المحيطة بالأعصاب.
وإذا كانت أشعة إكس تصور عظام الجسم البشري. ولا تعطي إلا معلومات ضئيلة عما يحدث داخل الخلايا الحية. فإن الرنين المغناطيسي النووي يعطينا صورا واضحة وملونة لهذه الخلايا. بحيث يمكن تحديد مكان ومدي انتشار المرض داخل الجسم.. وهناك العديد من الحالات المرضية التي يمكن ان يستخدم الرنين المغناطيسي النووي في تحديدها ومنها: امراض الرئة ومشاكل الدورة الدموية وأمراض الكبد والتحديد المبكر لنجاح عمليات زراعة الكلي ودراسة الأنسجة الكلوية.
يتكون جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي النووي من مغناطيس هائل مجوف. ذي منضدة بمنتصفه. يتمدد عليها الشخص المطلوب فحصه. ويستعمل مغناطيس كهربي لتوليد مجال قوي جدا "أقوي آلاف المرات من المجال المغناطيسي للأرض". وله ملف فائق التوصيل يبرد علي الدوام بواسطة الهليوم السائل. وعندما يشتغل الجهاز ويكون الشخص في الداخل. تصطف الأنوية ذرات الهيدروجين التي في جسمه. وكذلك الأنوية الأخري ذات العدد الفردي من البروتونات والنيوترونات. إما بشكل مواز أو موازِمضاد. بحيث تتجه الأنوية عالية الطاقة ناحية رأس المريض والأنوية منخفضة الطاقة ناحية أصابع القدمين. وهي تهتز بتردد معين Frequency. وكلما زادت قوة المجال المغناطيسي. زاد هذا التردد.
ولإظهار الصورة المطلوبة يقوم مشغل جهاز الرنين المغناطيسي النووي بإطلاق موجات راديوية من مصدر راديوي بزاوية عمودية علي المجال المغناطيسي الثابت. فيتغير برم الأنوية من اتجاهه ويحصل علي طاقة خلال هذه العملية ومقدار الطاقة الممتصة هذه يتوقف علي الأنوية وقوة المجال المغناطيسي.
وهذه الطاقة الاضافية تنقل أنوية البروتون المنخفضة الطاقة إلي حالة "مثارة" Exctited مرتفعة الطاقة. وعندما "يثير" جهاز الرنين المغناطيسي هذه البروتونات بالموجات الرديوية التي لها تردد البروتونات نفسه. فإن هذه الموجات تدفعها بعيدا عن التوازي. وبمجرد توقف الموجات الراديوية. وفي أقل من أجزاء من ألف من الثانية. فإنها ترجع حلزونيا إلي مكانها الأول مطلقة موجات راديوية ضعيفة خاصة بها. لتعود إلي حالتها الأصلية. وهذا ما يعرف بالرنين Resonance. أي يتم تخليص الأنوية من هذه الطاقة عن طريق موجات راديوية مميزة يطلق عليها تردد لارمر Larmor Frequency. ثم تلتقط هذه الموجات بواسطة جهاز استقبال خاص. وتعتمد خصائص هذه الموجات علي العدد المتاح من أنوية ذرات الهيدروجين أو غيرها. ثم تغذي البيانات التي تخرج من جهاز الاستقبال إلي كمبيوتر يقوم برسم لتوزيع الأنوية المسئولة عن اصدار الموجات الراديوية المميزة. وهذه الموجات الراديوية تخبر جهاز الفحص بالكثير من المعلومات. فقوة الموجة توضح مقدار الهيدروجين المتوافر. وغالبا ما يعني ذلك من الناحية العملية مقدار الماء الموجود في الجسم. إلا أن هناك أيضا هيدروجينا موجودا في الدهون وغيرها من الجزيئات. والموجات التي تعطيها بروتونات الهيدروجين الموجود في الماء. تختلف عن موجات بروتونات الهيدروجين في غير الماء. وهذه درجة أخري مختلفة من المعلومات. ووظيفة الكمبيوتر هنا. السيطرة علي جهاز الرنين المغناطيسي النووي وتخزين المعلومات ثم استرجاعها بالشكل المطلوب. وتقديم صور ملونة لداخل الجسم البشري علي شاشته.
والزمن الذي تستغرقه نواة الهيدروجين. بعد توقف. الموجات الراديوية المسلطة عليها. وقبل إعادة إشعاعها للطاقة التي امتصتها. عامل مهم جدا. لأنه يحدد نوع الجزيء الذي يحتوي علي الهيدروجين. كما أن هناك المزيد من المعلومات التي تتكشف من قياس معدل رجوع النواة إلي حالتها العادية. ويطلق مصطلح زمن الاسترجاء Relaxation Time علي الوقت اللازم لاسترخاء النواة. ورجوعها إلي التوزيع المتوازن لها.
إحدي مزايا طريقة الرنين المغناطيسي النووي. أنها لا تتضمن أي اشعاع ضار – كما في حالة الاستخدام الطويل لأشعة إكس – بالاضافة إلي أنه لا يوجد أي أثر سييء معروف لتعريض جسم الإنسان لهذا النوع من المجالات المغناطيسية. أما الموجات الراديوية التي تستخدم في أجهزة الرنين المغناطيسي. فتكون بترددات الموجات القصيرة نفسها التي تستعمل كثيرا في الاتصالات اليومية المعتادة. وهي تخترق أجسامنا طوال الوقت ولا تحدث أي ضرر. أي أن طريقة الرنين المغناطيسي النووي مأمونة بالنسبة للمريض. إلا أن قدرة المجال المغناطيسي للجهاز ضخمة جدا لدرجة أنه من الخطورة أخذ أي جسم حديدي إلي داخل غرفة الفحص. فمثلا مسمار متوسط الحجم قد يتحول إلي قذيفة قاتلة إذا أثر عليه المجال المغناطيسي.
وتتميز أيضا طريقة الرنين المغناطيسي النووي. بأنها الوسيلة الوحيدة المعروفة حتي الآن لإنتاج صور تبين اضطرابات المخ والأعصاب. كما يمكن استخدامها ليس فقط في تشخيص المرض. وإنما أيضا في اعطاء معلومات عن مدي ملاءمة العلاج. ولا يستخدم الرنين المغناطيسي النووي في المجالات الطبية وحسب. ولكن حدث توسع كبير في استخداماته في دراسة البنية الكيميائية والأشكال الجزيئية للمركبات العضوية عموما. وكذلك في دراسة تراكيب ووظائف البروتينات والدهون والتفاعلات الجزيئية في الصناعات النفطية وصناعات اللدائن.
لا تزال الأبحاث جارية بشأن استخدام عناصر أخري مثل الصوديوم والفوسفور التي تعطي تغيير خواصها انذارا. مبكرا بحدوث جلطة المخ أو السكتة القلبية. كذلك معرفة حدوث أي تغيير في درجة الحموضة داخل الخلية. ومنها يمكن معرفة أن خلايا القلب قد تحولت إلي التمثيل غير الأكسوجيني. ومن كل هذه المعلومات سوف يدرك الطبيب بأن المريض يوشك علي الاصابة بجلطة قلبية. فيمكنه تلافيها. كذلك يمكن تصوير الأجسام المضادة المرتعشة داخل الجسم. مما يوفر لطبيب المستقبل أداة قوية لدراسة أمراض مثل البول السكري والحساسية والعقم. كما أنه من المتوقع أن يساعد التصوير بالرنين المغناطيسي النووي في إعطاء معلومات عن عضلة القلب. وتدفق الدماء بالقلب. كما أن قدرة الرنين المغناطيسي علي التمييز بين أنواع الأنسجة تعني أنه ربما يمكن استخدامه ليخبرنا. هل الورم الذي تحت الفحص سرطاني أم لا. اضافة إلي أنه بإمكان أجهزة الرنين المغناطيسي النووي دراسة أنوية أخري مثل الكربون والحديد.
لقد بدأت الكثير من مستشفيات العالم – ومنها مستشفيات في بعض الدول العربية مثل مصر – استخدام أجهزة الرنين المغناطيسي النووي لفتح نافذة علي داخل الجسم البشري الحي. لما تتميز به من دقة تامة في تشخيص الأمراض لهذا أطلق الأطباء علي الرنين المغناطيسي النووي.. الأمل الجديد للمرضي.